رحيم (الفصل السادس)


رحيم
الفصل السادس
فُتح القفل السادس تلقائيا و ازداد جمال الشجرة و اخضرارها ..
-هه! ما زلتُ امام بيتي! اين المهمة السادسة؟ يا ترى هل نسيني رحيم هذه المرة؟
دخلت حياة الى غرفتها.
-         غرفتي تبدو مختلفة بعض الشيء فهي نظيفة جدا ومرتبة, أين أوراقي المبعثرة و أين ألعابي الممزقة و ملابسي المهترئة؟ أيعقل أنهم قد أخلوا منزلي بهذه السرعة؟ إنهم اشرار فعلاً! لقد تمنوا موتي كثيراً و ما أن لاحظوا غيابي حتى استولوا على البيت؟ آه لو كانت الأمنيات بحوزتي و لم استغلها جمييعا ؛لكنت قد تمنيت إعصاراً شديدا يسحب كل جيراني بعيداً و خاصة جاري أبو أحمد كم أتمنى أن يطير بعيداً هذا الرجل السئ.
اخرجت حياة الحجر الكريم و نادت "رحيم"
- توقفي الآن توقفي ايتها الثرثارة!
-هذا صوت رحيم!أين أنت كلمني! ماذا حدث بمنزلي؟
- أنت الآن يمنزلك لا تخافي ولا تظلمي الجيران...هو منزلك لكن قبل ثمانية عشر عاما وقبل مقتل والدتك!
- هذا شيئ عجيب...ماذا أفعل بذلك الزمن؟
- كان والدك شاباً قوياً جداً وعاش مع والدتك حياة سعيدة حتى أُُصيبت جدتك بمرض صَعُبَ على الأطباء التعرف عليه فكانت أعراضه نادرة الحدوث ولكن والدك أحب الجدة حبًا جمًا فهي امرأة حكيمة طيبة القلب هادئة و قليلة الكلام .. أعتقد أنك ورثت منها الذكاء .. الذكاء فقط يا ثرثارة...
- نعم لقد سمعت ذلك من قبل ..اكمل يا رحيم ارجوك...
- أُصيبت الجدة ذات يوم بحالة من الصمت العام و لم تستجب لما حولها لكنها كانت تقوم بشيئ واحد...
- و ما هو ؟
- لا تقاطعيني! كانت تستيقظ في منتصف الليل كل ليلة لقتل حيوان أليف تختاره من داخل بيوت البلدة.
- يا للقسوة! كيف وقد كانت طيبة القلب؟!
- نعم لقد كانت قاسية بعض الشيء لكنها لم تكن في وعيها بهذا الوقت...فقد أُصيبت بلعنة الورق!!
 - أهذا اسم يطلق على لعنة! اسم رقيق جداً...
- تتفوقين على نفسك بالسخرية يوماً بعد يوم يا فتاة!
- أعتذر مرة اخرى... أكمل يا رحيم...
- سأكمل القصة...طلب أحد المشعوذين من جدتك أذية بعض الأشخاص لكونها أكثر الناس ذكاءً و دهاءً و قد أراد أن يغير طريقته في ايذاء الناس دون استخدام السحر و يبدو أنه قد أراد التوبة بطريقة ملتوية!لكن جدتك لم تقبل بذلك فاصابها بلعنة الورق ألا و هي أن  تصمت طيلة النهار وأن تقتل أحد الحيوانات ليلاً و بهذا فإنها تؤذي جميع السكان بحزنهم على حيواناتهم الأليفة... ولِفَك هذه اللعنة كان عليها اختيار أعز من تملك لتحتجزه داخل الورق...
نظرت حياة بتعجب واستغراب و هل اختارت احدهم؟ وهل اختيار شخص من البشر لحجزه أفضل من قتل حيوان اليف؟
-         ما حدث كان رغمًا عنها فإن أنهت على جميع حيوانات البلدة عليها الإنتقال للبشر وهي لم تقتل هذا الشخص وإنما احتجزته داخل الورق وما زال حيا ليومنا هذا.
-         ومن هذا الشخص العزيز؟ و أين احتجزته؟ اخبرني لم لا تتكلم؟ ارجوك فالفضول يمزقني...لم يعد بوسعي الإنتظار..
-          اللوحة!
-         اية لوحة!
-         اللوحة اللوحة!
-         ما ورثتُ عن امي؟
-         نعم اللوحة اللوحة!
-         ملاكي المنقذ؟ و من يكون.. يا للهول! هل عاش معي مدة ثمانية عشر عاماً شخص بنفس الغرفة...؟ هل استمعَ إلي و أنا احادث نفسي؟ هل ازعجته بثرثرتي؟ و الفوضى! يا لحظي العاثر!حتى ملاكي المنقذ شاركني الجنون.
-          إنه السيد مجد.
-         مجد؟اسمي هو حياة مجد...لا تقل إنه أبي! لا تقل أن أبي كان شاهداً على جنوني و مستمعًا لصوتي المزعج بالغناء وحدي! لا تقل بأن أبي مُحتَجَزٌ في ورقة صغيرة داخل لوحة! ارجوك قل الحقيقة.
-         نعم السيد مجد والدك احتُجِز في ورقة داخل لوحة وعلقت فوق سريرك منذ الطفولة و هو ملاكك المنقذ.
-         أبي لم يمت ؟!
لم تستطِع حياة تحديد شعورها تجاه هذا الأمر...هل هو الفرح لوجود الأب الذي تمنته يوما!أم الإرتباك لكونه قد شاركها لحظات الحزن و البكاء والغضب التي عاشتها يوما!
-         عليّ التفكير بطريقة اخرى...لا يهمني الماضي ولا مشاعري وقتها  فما يهم الآن هو مساعدة أبي في الخروج من اللوحة, و أعتقد أن رحيم هو الوحيد القادر على معاونتي وأعتقد أنني قد أنجزت جميع المهمات الموكلة إلي ولا أظن أنني فشلت بأحدها وأستحق نوعًا من المكافآت كإخراج أبي من اللوحة مثلا !
-         تبقى لديك مساعدة واحدة فقط هل تجازفين باستخدامها؟ ولا تنسي مهمة القفل الاخير.
-         نعم سأستخدم المساعدة و هل هناك أغلى من أبي لأضحي لأجله؟
-         حسنا,سأخبرك بطريقة فك اللعنة عن والدك لكن بشرط ..أن تقومي بالمهمة الأخيرة وحدك!
-         موافقة,هه أخبرني!
-         لِفَكّ اللعنة عن والدك عليك التحدث معه بعاطفة أكبر و ليس بكلام أكثر!
عُرِفَت حياة بحبها للكلام والثرثرة كثيراً لكنها لم تجد أحدا تحادثه طيلة سنوات عمرها...فما كان منها إلاّ التكلم مع مرآتها التي أسمتها يومها "آنسة فضفضة " فقد اعتبرتها إنسانا آخر تحاوره و تحادثه...فلم تجرب مشاعر العطف و الحب بين الناس و كانت دائمة التفكير بالمنطق و العقل  أما الجزء العاطفي من حياتها يكاد أن يكون معدوما.
قالت حياة :
-         وهل هناك أنواع للحديث و الحوار؟ و هل ما أقوم به معك من حوار يخلو من العاطفة؟
-         مِيزة الحوار معك وكما رأيتُ تمتاز بالتفكير المنطقي و بالسخرية في بعض الأحيان و لم أستشعر أي عاطفة! والآن عليك التحدث مع والدك عبر اللوحة و كما أخبرتك مسبقاً...و لكن ليس في هذا الزمن...يجب أن تعودي إلى الزمن الحالي فكما تعلمين إنْ استمر السّفر عبر الزمن وقتا طويلا سيصعب عليك العودة إلى زمننا الحالي...
سقطت حياة على الأرض فجأة ووجدت نفسها أمام كتبها المبعثرة و ألعابها المتناثرة هنا و هناك.
-         وأخيراً! عُدت إلى حياتي الحقيقية! كم اشعر بالراحة الآن...هه عليّ التحدث مع والدي قليلا.
(أمعَنت حياة النظر في اللوحة و بدأت بالتفكير)
-         كيف يُعقَل أن يُسجَن أبي داخل لوحة بهذاالحجم؟ هل كان أبي قزماً؟ أم شيئا هلاميًا يسهُل حمله و تشكيله ووضعه داخل لوحة! آآآه لأصمت قليلا ما لي انجرف بعيدا عن مهمتي الرئيسية ؟!
(نظرت حياة مرة اخرى الى اللوحة و بدأت بالحديث)
-         أبي لقد علمت أنك بالداخل و طُلِب إليّ محادثتك...
شعرت حياة بالتوتر والارتباك...
(تفكر)
-         كيف أحادثه و هوغير مرئي؟ حسنًا أخبرني ما حصل لك و كيف دخلت لهذا المكان الصغير؟
(تفكر)
-         لالا,هذا ليس سؤالاً ولا كلامًا عاطفيًا! بل ضياعا للوقت...
عاوَدَت الحديث:
-         أبي! لقد كنت بحاجة إليك طيلة حياتي وتمنيت وجودك عندما كنت في محل الألعاب وأننا بالخامسة من عمري عندما قام العم بطردي لأني لاأملك نقوداً! وأحببت أن تكون بجانبي بيوم "مهنة أبي" في المدرسة, حيث أحضر كل طالب والده مرتديا زيّ المهنة التي يقوم بها و التحدث عنها امام الطلاب الآخرين,أنت لا تعلم كمية القهرالتي عانيتها عندما لقبني الآخرون بـ"الفتاة الفضائية عديمة الأب",أتعلم يا أبي ؟ إنني عِشت على معونات الناس و تمت تربيتي من قِبَل امرأة غريبة مدة خمس عشرة سنة...رُبيت على العمل صباحا لكسب الرزق و بالرغم من عملي المتعب و استيلائها على نقودي كانت تتسول النقود بحجة خوفها عليّ من الجوع...حتى إنها لم تسمح لي بالدراسة فكنت أدرس بالخفية مساءً في حَمْلة تعليمٍ مجانيٍّ قام بها أحد الأشخاص الطموحين محبي الخير ولحسن حظي أنها نادرًا ما تتواجد في المنزل مساءً فأقضي ليلي كله في غرفتي للدراسة والصلاة و الدعاء و ما أُغمض عيناي قليلاً حتى أعود صباحاً للعمل وهكذا...ثم تخلت عني عندما جاء للبلدة رجلاً ثرياً قليل الحيلة فتقربت منه و استولت على ثروته وتركتني وحيدة مغادرةً البلاد...و بعدها عِشتُ سنتين وحيدة يبتعد عني الجيران خوفًا من الجِن المسيطر عليّ أو رعبًا من كوني فضائية و قد احتل الأرض يوما! أعتقد انني عرفت الآن سِرّ هذه الشائعات بعد أن سردت قصتي  ربطت الأحداث! لهذا قام الجميع بوداعها والبكاء على فراقها بالرغم من تعاملها السيئ مع طفلة صغيرة ثم ابتعد الجميع عني...هي مناطلقت تلك الشائعات حتى تغادر وهي مرتاحة الضمير فلا يقاضيها أحدهم او يزعجها بالإتهامات.
ما أن انهت حياة حديثها حتى بدأت بالبكاء.
و قالت: أرايت يا أبي لو كنت بجواري الآن لعشت طفولتي كما أردت ولحققت أهدافي بالحياة بلا تعب ولوجدت حضنا أبكي عليه وحنانا يعوضني عن فقدان الأم.
        خلال لحظات قصيرة شعرت حياة بهزة أرضية قوية حركت جدران الغرفة و تساقطت كل أدوات المطبخ وتبعثرت جميع الأوراق وسقطت الكتب من على الطاولة وهَوَت اللوحة على الأرض فكُسِرت وإذ بضوء متوهج يملأ الغرفة و صوت عال يهز زجاج النافذة حتى تهشم إلى أجزاء صغيرة...فخرج رجل من اللامكان,لقد كان رجلا طويلا وسيم الملامح ذو ذقن صفيرة و عينان واسعتان.
قالت حياة بدهشة :
-         يا الهي! من انت يا رجل؟ و كيف دخلت الغرفة؟ هه,لكن وجهك مألوف لديّ ,هل رأيتك سابقا؟ هل أنت مبعوث من قبل رحيم ,يا هذا لماذا لا تتكلم؟

وإذ بها تشيح بنظرها عنه إلى الارض ناظرة الى اللوحة المحطمة إلى جزأين,  فأحسّت بالذعر.
-         كلا...لا يمكن أن تتحطم .. أبي الحبيب بداخلها...أرجو أن تساعدني يجب أن أجمع أجزاء اللوحة...مُدّ يدك لمساعدتي بإلصاقها.

ساعدَها الرجل في إلصاق اللوحة و إذ بها تتفاجا بأن اللوحة فارغة!
بدأت حياة بالصراخ و البكاء.
-         لقد ضاع تعبي واختفى أبي... أين سأجدك الآن؟
(استمرت بالبكاء)
صوت الرجل من خلفها جعلها تدور بسرعة نحوه:
-         لا تبكي يا صغيرتي فعندما تبكين تنتفخ عيناك مدة يومين متتاليين و لن تهدآ إلاّ بأقنعة الخياروالبطاطا تلك!
ساد الصمت بعض الوقت واسترجعت حياة ما سمعته من كلام...والتفتت إلى الرجل و قالت:
-         كيف عرفت بذلك؟ لا أحد يعلم أنني أبكي ليلا ولا بأمر الأقنعة تلك!من أخبرك بهذا الشيئ؟
رد عليها:
-         وأين الفِطنة التي اشتهرت بها يا ابنتي؟
-         هه! أبي؟ أيُعقَل أن تكون أبي وقد خرجت من اللوحة! نعم إنك أبي, لم أُخطئ عندما قلت أنني رأيتك مسبقًا,رأيتك داخل اللوحة وبالمرآة أيضًا سنين طويلة,كم أشعر بالإحراج!
( لقد خانها الذكاء للحظات وأحسّت بالضآلة الشديدة!)
اندفعت حياة نحو والدها فاحتضنته واستمرت بالبكاء على كتفه.
قال السّيد مجد:
لا تخافي يا ابنتي أنا الآن بجوارك ولن ابتعد عنك,لقد كنت متابِعًا لك يومًا بعد يوم و كنت أشعر بالسعادة عندما تفرحين والحزن عند شعورك بالألم,كنت مرافقًا لمراحل حياتك جميعها,غَضِبت كثيراً عندما بقيتي عند السيدة عائشة فترة طفولتك. فأنا اعرفها جيداً,تلك المرأة الغيورالسيئة التي طالما حاولت أذية والدتك فهي لم تحلم يوما بأن تصبح جزءاً صغيراً مما كانت والدتك عليه من جمال وعفة وروح دعابة,الحقيقة لقد كنت خاطبًا لهذه المرأة قبل والدتك,أُجبرت على خطبتها يومًا لمشاكل ضمن العائلتين لكنها كانت مثالاً للشر والحقد والغيرة والتملك ولم أطق ذرعا حتى انفصلت عنها وتقدمت لخطبةوالدتك ثم الزواج بها, وبعدها أُصيبت بنوبة شديدة من الغيرة فاتجهت نحو رجل من رجال المشعوذين طالبة منه الذهاب الى والدتي والاتفاق معها على إحدى الخطط الشريرة المتمثلة بأذية الناس ,و اعتقد أن رحيم أخبرك بقية القصة حتى أصبحت أنا محتجزًا بهذه اللوحة وتوفيت والدتي قهرا وحزنا على ما حل بي.
تكلمت حياة قائلة:
-         لن يضيع الوقت و نحن نتألم على الماضي فالمستقبل أمامنا وعلينا أن نحقق ما عشنا لأجله وأن نكون سعداء معا.
-         تقولين الحقيقة ,فعلا انت فتاة عقلانية ومنطقية و هذا ما يعجبني بابنتي الصغيرة.
خرجت حياة الى الحديقة برفقة والدها و اذ بالقفل الاخير يفتح!!




يتبع ...









تعليقات

المشاركات الشائعة